العقوبة البديلة الحديثة وتجلياتها في القانون المغربي
"قراءة على ضوء مشروعي القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية"
مقدمة:
منذ فجر التاريخ شكلت التجمعات الاجتماعية الرئيسية والمتمثلة في (الاسرة، العشيرة، القبيلة) احد الركائز الأساسية لتوقيع الجزاء والتمييز بين الخير والشر، فمتى كيفت الجماعة فعلا على انه جريمة فان رئيس الجماعة هو وحده يتولى الفصل والحكم في حياة المذنب، اما اذا كان الاعتداء خارجيا أي صدر من جماعة أخرى فإن الجزاء يأخذ شكل (ثأر عام) وكان ذلك في ظل المسؤولية التضامنية التي سادت بين أعضاء الجماعة جميعهم، حيث كانت جرائم الاعتداء على النفس اهم الجرائم في ذلك الحين، حيث ان الجماعة تحاول جهدها للمحافظة على افراد جماعتها.
وقد اهتدى الحال والتطور الأخلاقي
لتحول مفهوم الجماعة الى مفهوم الدولة، وانتقلت السلطة الى الحاكم داخل المدينة،
وفيه اتجهت دفة القانون صوب افاق جديدة عرفت بانتصار العقل، حيث ظهرت أصناف جديدة
لمفهوم العقاب كالدية وقانون القصاص، ذلك ان العقوبة ارتبطت -على خط تطورها- تارة
بالمال فهو زينة الحياة الدنيا كما يشكل قيمة أساسية عند الفرد على مر العصور،
وتارة أخرى بشؤون الدين حيث سطعت شمس العقيدة وبدأت تغزو القلوب والعقول فأصبح
انتهاكها يشكل اعتداء على المقدسات.
ان الملاحظة الجديرة بالتنويه حال
استعراضنا السريع لمراحل تطور النظام العقابي تتمثل في ان الاهتمام كان منصبا في
اغلب الحالات على حماية الجماعة، وكيف عرفت العقوبة ذلك التحول من طابع فوضوي الى
ما يمكن ان نسميه بالعقوبة الفاضلة على (غرار المدينة الفاضلة للفيلسوف افلاطون).
وعموما كان للتاريخ العقابي رقعا في
بناء مفهوم حديث للعقوبة يجسد لها صورتها المثالية فالتطلع على تجربة الاخرين
وتطور الفكر لديهم يعد من بين اهم الدروس، ودرس التاريخ يتبوأ مكان الصدارة، اذ من
خلاله نقرأ ونتعلم أفكار الشعوب بحروف واضحة، نقرأها بقلوب مفتوحة وعقول مبصرة حتى
نعي الدرس تماما.[1]
ان شرعية العقوبة وقوتها، مستمدة من مبدأ لا
جريمة ولا عقوبة الا بنص، ففهي ترتبط في نوعها وشدتها بظروف الحادثة وظروف
مرتكبيها، ولكل جريمة في القانون الجنائي ما يقابلها من جزاء، فالقانون وحده من
يمكنه سلب الشخص حريته متى كان مجرما او إقرار براءته إذا كان بريئا.
يقول
الفيلسوف جورج برنارد شو "من اجل اصلاح الفرد يجب جعله أفضل، ولا نجعله أفضل
بأن نسيء اليه"، من هذا المنطلق استوجب توجه السياسة الجنائية الحديثة الى
اعتماد جملة من التدابير المرتبطة بإصلاح المذنب، ولا يمكن ان يتأتى هذا الطرح الا
من خلال تجاوز مختلف العقوبات التقليدية التي أظهرت قصورا وعيوبا عديدة تجاوزت
مزاياها، وفي هذا الإطار ظهرت في الفقه والقانون الجنائي جملة من الحلول الداعية
الى استبدال العقوبات التقليدية ببدائل حديثة يمكن تطبيقها وفق شروط وضوابط محددة.
ان أهمية
التطرق لموضوع العقوبات الحديثة والبديلة تظهر من خلال المكانة التي أصبحت هذه
المسألة تشغلها في مقاربات السياسة الجنائية عامة والسياسة العقابية على وجه
الخصوص، باعتبارها تشكل هاجسا لمختلف العاملين في الميدان الأمني والقضائي في ظل
عدم تحقيق العقوبات المعمول بها الغايات المرجوة منها، وتحقيق العقوبة لأهدافها
الأساسية.
فماهي
اهم صور العقوبات البديلة الحديثة؟ وما مدى اسهامها في تعزيز السياسة الجنائية؟
وما تجلياتها في التشريع الجنائي المغربي على ضوء مشروعي القانون الجنائي وقانون
المسطرة الجنائية؟
اجابة على
الإشكالات المطروحة ارتأينا اعتماد التصميم الاتي:
·
المطلب
الأول: الإطار العام للعقوبة البديلة الحديثة؛
·
المطلب
الثاني: تجليات العقوبة البديلة الحديثة في التشريع الجنائي المغربي.
المطلب
الأول: الإطار العام للعقوبة الحديثة:
تتمركز اهداف السياسة العقابية في
عموم دراساتها في محاولة الحد من الجريمة وزجر مرتكبيها، ويتمثل هذا التوجه من
خلال جملة من العقوبات المنصوص عليها في التشريع الداخلي لكل دولة، حيث ان بعض
التشريعات تبنت صور بديلة للعقوبة غير صورتها التقليدية؛
ومن هذا المنطلق سنتطرق لتعريف
العقوبة البديلة واهميتها سواء بالنسبة للفرد او الجماعة، وأخيرا أنواعها وصورها.
·
الفقرة
1: تعريف العقوبة البديلة واهميتها
1-
تعريف
العقوبة البديلة:
تعرف العقوبة لغة من التعقب او
التخلف، والعقوبة هي اسم للجزاء التالي للجريمة،[2]
وتعرف البدائل في اللغة بانها التغييرات والعوض، وبدل الشيء أي غيره، والاصل في
الابدال جعل الشيء مكان الاخر،[3]
وقد طرحت الشريعة الإسلامية بدائل للجزاء من خلال بعض الاحكام الخاصة بالتعزيز او
تلك المتعلقة بالفدية والدية.
وفي الاصطلاح العقوبة هي الجزاء
الذي يوقعه القضاء باسم المجتمع على كل شخص ارتكب فعلا او تركا مخالفا بذلك
القانون الجنائي؛[4]
اما العقوبة الحديثة او البديلة فلم
تستقر الآراء الفقهية على إيجاد تعريف محدد لها، وحتى تسمياتها اختلفت وتعددت
فهناك من يسميها ببدائل السجون، او بدائل العقوبة السالبة للحرية، وعموما يمكن
تعريفها بانها "اتخاذ عقوبات غير سجنية ضد المذنبين بدلا من عقوبات
سجنية"[5]،
او هي "مجموعة البدائل التي يتخذها القاضي في إحلال عقوبة السجن بخدمة يقدمها
السجين لفئة من فئات المجتمع او الالتحاق بمرفق تعليمي يستفيد منه السجين بهدف إصلاحه وحمايته وتقديم
خدمة لمجتمعه".[6]
أو هي حسب المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي "مجموعة الإجراءات التي يتخذها
المجتمع لمعاقبة المخالفين لقوانينه بهدف اصلاحهم وتطبيق العقوبة عليهم، دون
تنفيذها داخل أماكن تجعلهم في عزلة عن المجتمع"[7]
وفي تعريف
مسودة المشروع القانون الجنائي "هي العقوبات التي يحكم بها في غير حالات
العود كبديل للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها
سنتين حبسا."[8]
من خلال ما
تقدم يمكن ملاحظة اتفاق جملة من التعاريف على ان العقوبات البديلة هي إحلال عقوبة
غير حبسية محل العقوبة السالبة للحرية وفق شروط وضوابط ينص عليها التشريع الوطني،
وذلك بهدف تحقيق الردع العام والخاص وإصلاح وتأهيل المحكوم عليهم.
وتجدر الإشارة
الى ان منظمة الأمم المتحدة تناشد دول العالم الى تبني مسألة تحسين معاملة السجناء
والتفكير في بدائل الاحتجاز وذلك من خلال معظم مؤتمراتها وكذا التوصيات ذات الصلة،
ويظهر ذلك جليا من خلال مؤتمر شؤون مكافحة الجريمة والوقاية منها ومعاملة المجرمين
والعدالة الجنائية في كافة نسخه، والتخلي عن العقوبة السالبة للحرية القصيرة المدة
وتعويضها ببدائل حديثة كعقوبة وقف التنفيذ، او الاختبار القضائي، او الغرامة، او
العمل في ظل نظام الحرية المشروطة.[9]
كما سعت الأمم المتحدة الى ذلك أيضا من خلال قواعد الأمم المتحدة الدنيا النموذجية
للتدابير غير الاحتجازية والمعروفة بقواعد طوكيو لسنة 1990 حيث تم اعتماد هذه
المعايير بموجب قرار الجمعية العامة رقم 110/45 المؤرخ في 14 دجنبر 1990، حيث تهدف
هذه المعايير الى توفير مبادئ أساسية لتعزيز استخدام الإجراءات غير الاحتجازية
وتوفير حد ادنى من الضمانات للأشخاص الخاضعين لبدائل عقوبة الحبس، واقحام المجتمع
المحلي في إدارة العدالة الجنائية، وتحديدا في مجال معاملة المخالفين، إضافة الى
إضفاء حس المسؤولية في المجتمع اتجاه المخالفين والجناة.
2-
أهمية تطبيق العقوبة الحديثة:
تهدف التشريعات الجنائية عموما للحد من الجريمة وبسط الامن والاستقرار داخل المجتمع، وتختلف الضوابط والإجراءات المستعملة في هذا النطاق، وذلك من خلال جانب وقائي يتمثل في التدابير الأمنية الوقائية، وجانب علاجي تمثله العقوبة بجميع اشكالها، ولعل مسألة العقوبة الحديثة تحمل في طياتها جملة من المزايا والفوائد التي تعود على الأصعدة التالية:
v على الصعيد الاجتماعي: من اهم المزايا في هذا المجال:
· تفادي تجريد
المحكوم عليه من هويته الاجتماعية، خاصة الجانح لأول مرة والذي يمكن للسجن ان يشكل
له تكوينا لاحترافه الجريمة، متى كانت فرص احتكاكه وانسجامه في دائرة المجرمين
الخطيرين.
· تفادي الضرر الذي
قد يصيب اسرة المحكوم عليه،[10]
خاصة إذا كان معول الاسرة الوحيد.
· تفادي الاضرار
النفسية للمحكوم عليه خاصة غير المسبوقين، نتيجة للوصم الاجتماعي،[11]
الذي يعدم هوية الفرد ويزيد من نسبة الحقد اتجاه المجتمع.
v على الصعيد العقابي
والتأهيلي: يمكن ايجازها فيما يلي:
· الحد من ازمة
السجون، خاصة الاحكام الصادرة بعقوبات سالبة للحرية قصيرة المدة، وما يترتب عن ذلك
من اثار تنعكس سلبا على المؤسسات العقابية مما يشل يدها عن تنفيذ برامجها
التأهيلية والاصلاحية المتوخاة لإصلاح المذنب وتسهيل إعادة ادماجه داخل المجتمع.
· اصلاح المذنب
وتأهيله بعيدا عن أروقة السجون واعطاءه فرصة للتكفير عن خطيئته وعدم الانصياع
وراءها.
· تحقيق سياسة عقابية
بشكل متوافق مع التداعيات الدولية لحماية حقوق الانسان عموما والسجناء والمجرمين
على وجه الخصوص، بناء على التوصيات الدولية والتوجيهات الوطنية المعنية بهذا
الامر.
· الحد من نسبة العود
للجريمة، وتنمية الشعور بالمسؤولية لدى الجانح بشكل يساعده على الاندماج داخل
المجتمع.
v على
الصعيد الاقتصادي: باعتباره نبض الدولة واستمرارها،
فان اهم ما يمكن استخلاصه من مزايا يتمثل في الاتي:
· تفادي ارهاق خزينة
الدولة،[12] فمن
المعلوم ان منظومة السجون في كل دولة تستهلك أموالا طائلة لتسييرها وتحمل اعبائها،
حيث ان العقوبة البديلة تعفي الدولة من أعباء الاعتناء بالمساجين خاصة في تحسين
ظروفهم وصيانة حقوقهم، والتي أصبحت مطلبا دوليا.
· يمكن للعقوبة
البديلة خاصة مثلا المتعلقة بالعمل لصالح المنفعة العامة من توفير اليد العاملة،[13]
مما ينعكس أيضا إيجابا على المذنب واكتسابه لخبرة جديدة تساعده على الاندماج في
سوق الشغل.
· كما يمكن ان تساهم
الغرامات اليومية والمصادرات العينية البديلة للعقوبة السالبة للحرية في مداخيل
الخزينة العمومية وذلك وفق ضوابط محددة.
· الفقرة 2: اهم
اشكال العقوبات الحديثة
تتعدد اشكال
وصور العقوبات البديلة من مشرع لآخر حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية لكل دولة،
ورغم تعددها الا ان تطبيقها يظل مقتصرا على بعضها دون الاخر، وفق السياسة الجنائية
والعقابية لكل دولة على حدة، وسنتطرق في هذه الفقرة الى اكثرها شيوعا وفعالية في
الحد من الجريمة:
v إيقاف التنفيذ: وهو تعليق تنفيذ العقوبة على شرط واقف خلال مدة معينة يحددها القانون،
فهو اذا سلطة مخولة للقاضي يأمر بها وفق شروط معينة بوقف تنفيذ العقوبة خلال مدة
معينة، وتنقضي العقوبة الاصلية اذا التزم المحكوم عليه بتغيير سلوكه خلال المدة
المقررة. امتد ظهوره للقرن 18 على يد المدرسة الوضعية الإيطالية الذي اقترحته
كبديل لإصلاح بعض المذنبين الأقل خطورة واحتل هذا النظام الموافقة من طرف جميع
الأعضاء في مؤتمر روما لسنة 1885،[14]
وتحكم هذه العقوبة جملة من الشروط التي تتعلق اجمالا بالمذنب والجريمة والعقوبة
الاصلية.
v نظام الافراج المقيد
بشروط: هو اجراء يسمح بالإفراج عن المحكوم عليه الذي
اثبت حسن سيرته وسلوكه قبل انتهاء مدة عقوبته الاصلية، من خلال هذا التعريف نلاحظ
على انه يميل الى حد كبير ان يكون برنامج إصلاحي اكثر من عقوبة بديلة، وذلك
باعتبار ان العقوبة البديلة هي اجراء استباقي للعقوبة السالبة للحرية وليس مكمل او
إضافي يلي العقوبة الاصلية.
وقد نشأ نظام هذه العقوبة من خلال تجارب
المؤسسات العقابية الفرنسية والانجليزية خلال القرن 19.[15]
v الاختبار القضائي: يشبه هذا النظام إيقاف التنفيذ، ويقوم على أساس معاملة الجناة الغير
خطيرين معاملة خاصة، من خلال فرض التزامات معينة عليهم حيث يفرج القاضي عن المذنب
ويعهد به الى الجهة المشرفة على الاختبار القضائي والتي تتكون من متخصصين
اجتماعيين، وتظهر نتيجة هذا الاختبار بعد مدة معينة بناء على تقرير المشرف
الاجتماعي، فاذا كان تقريره إيجابيا اعفى القاضي المذنب من العقوبة، والا فتنفذ
عليه العقوبة الاصلية للجريمة.
وقد ظهر هذا
النظام في إنجلترا سنة 1361، وفي الولايات المتحدة الامريكية سنة 1841.[16]
v الغرامة الجنائية: تشكل الغرامة المالية عقوبة اصلية او إضافية في عمومها، وقد تكون في
بعض الجرائم اختيارية بينها وبين عقوبة حبسية، كما يمكن لها ان تكون بديلا عن
العقوبة في حالات الحبس قصير المدة، وتعتمدها معظم الدول لتقويم سلوك المجرم الذي
يمكن ان يدفع غرامة يومية عن كل يوم في حالة سراح، في حين يعاب على هذا الأسلوب
العقابي في عدم تأثيره على المذنبين الأثرياء، ما قد يجعلها تفتقد لمبدأ أساسي وهو
المساواة امام القانون.
v العمل لصالح النفع
العام: يعتبر هذا النظام من اهم أنظمة بدائل
العقوبات، ويمكن تعريف هذا النظام بأنه صدور حكم عن القاضي يلتزم من خلاله المحكوم
عليه بالقيام بعمل دون مقابل لفائدة المصلحة العامة،[17]
ظهر هذا الأسلوب في الاتحاد السوفياتي سنة 1920، ثم انتشر الى أمريكا ثم اروبا منذ
سبعينات القرن 20، تأخذ به أيضا اغلب الدول العربية من بينها (مصر، لبنان، تونس،
البحرين ...).[18]
v المراقبة الالكترونية: السوار الالكتروني، ويقصد بها الزام المحكوم عليه بالإقامة
في منزله او محل اقامته خلال ساعات محددة، فهي تشبه الإقامة الجبرية الى حد ما،
وتتم متابعته عن طريق المراقبة الالكترونية من خلال وضع أداة ارسال رقمية على يده
تشبه الساعة، تسمح لمركز المراقبة من تحديد مكانه وتحركاته، وقد ظهر هذا النمط في
فرنسا حديثا.[19]
اذن ومن خلال
ما تقدم تتضح جملة الأنماط والأنظمة المتاحة للعقوبات البديلة والحديثة، كما ان
منظمة الأمم المتحدة تجتهد في كل مرة لإعطاء نماذج حديثة للعقوبة، مثال ما جاء في
الفصل 09 من قواعد طوكيو للتدابير غير الاحتجازية لسنة 1990، وهي تتعلق عموما ب:
· العقوبات الشفوية
كالتحذير والتوبيخ والإنذار.
· إخلاء السبيل
المشروط.
· العقوبات التي تمس
حالة الفرد القانونية.
· العقوبات
الاقتصادية والجزاءات النقدية كالغرامات والغرامات اليومية.
· الأمر بمصادرة
الأموال أو نزع الملكية.
· الأمر برد الحق إلى
المجني عليه أو تعويضه.
· الوضع تحت الاختبار
والإشراف القضائي.
· الأمر بتأدية خدمات
للمجتمع المحلي.
· الإحالة إلى مراكز
المثول.
· الإقامة الجبرية،
والعفو القضائي.
· أي شكل آخر من
أشكال المعاملة غير الإيداع في مؤسسة احتجازية.
المطلب
الثاني: تجليات العقوبة الحديثة على ضوء مشروعي القانون الجنائي وقانون المسطرة
الجنائية:
مضى زمن كانت الغاية من العقوبات
السالبة للحرية والعقوبات المالية الانتقام، والبشرية بصدد هذا الانتقال الى غايات
اسمى، تصحيح سلوك المحكوم عليه وتوفير فرص مناسبة لإعادة تربيته من جديد، بما يكفل
له العودة الى المجتمع بسلاسة ويمكنه الاندماج فيه من جديد؛ ومبرر الفكر الفلسفي
الجنائي هو كون سلب الحرية مهما طال سينتهي بالإفراج عن السجين مما يتطلب:
-
تهييئ
السجين للاندماج للمجتمع؛ العمل على ان يقبل من طرف المجتمع لكون نبذ المحيط له قد
يدفعه للعودة للإجرام وربما أكثر خطورة (وهو ما أشرنا له سابقا بنظرية الوصم).
-
كون
السجون أصبحت غير قادرة على استيعاب الاعداد الهائلة من المعتقلين بسبب العقوبات
السالبة للحرية، وبفعل عدم إيجاد المشرع لبدائل حقيقية بالإضافة الى بعض الممارسات
الناتجة عن شطط في اجراء الاعتقال الاحتياطي.
ولهذا دأب المشرع المغربي على غرار
باقي التشريعات الدولية وسعيا منه الى تكييف التشريع الوطني وفق المعايير
والالتزامات الدولية كما سار النهج على ذلك، اعتمد مشروع القانون الجنائي ومشروع
قانون المسطرة الجنائية مجموعة من العقوبات البديلة، تعزيزا للمنظومة العقابية في
المغرب ورغبة في استخلاص النظام العقابي الفريد الذي يضفي على تشريعنا الجنائي
صبغته القوية.
ولذلك سنتعرض لما جاء في مشروع
القانون الجنائي -الفقرة 1-، فيما نخصص الفقرة الثانية للتطرق لمشروع قانون
المسطرة الجنائية؛
· الفقرة 1: مظاهر العقوبة البديلة على ضوء
مشروع القانون الجنائي
بمجرد استطلاعنا لمسودة مشروع القانون
الجنائي نجده قد تضمن ضمن مواده مفهوم جديد منصوص عليه بصيغة صريحة الشيء الذي لم
يكن من قبل،[20]
وتتمثل اهم الآليات العقابية الحديثة على ضوءه في "العمل لأجل المنفعة
العامة، الغرامة اليومية، فرض تدابير رقابية او علاجية او تأهيلية"؛ وسنتطرق
حينها لكل نظام على حدة؛
v العمل لأجل المنفعة العامة: لقد صار من المؤكد ان اغلب التشريعات أصبحت تتبنى ضمن
تشريعها الجزائي عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة نظرا لما يحمله هذا النظام من
مزايا وغايات، وقد نص على ذلك مشروع القانون الجنائي في مادته 6-35 وافرد له شروطا
معينة:
1-
ان يكون المحكوم عليه بالغا من العمر 15 سنة على الأقل وقت
ارتكاب الجريمة؛
2-
الا تتجاوز العقوبة المنطوق بها سنتين حبسا.
حيث انه يكون
غير مؤدى عنه كما انه ينجز لفائدة شخص اعتباري عام او جمعية ذات منفعة عامة لمدة
تتراوح بين 40 و600 ساعة، وتحدد المحكمة عدد ساعات العمل لأجل الصالح العام، بمعدل
يوم من مدة العقوبة الحبسية يوازي ساعتين من العمل مع مراعاة الحد الأقصى لعدد
الساعات المنصوص عليه.[21]
ومن جهة
المحكوم عليه يتعين عليه الالتزام بتنفيذ عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة داخل
اجل لا يتجاوز 12 شهرا من تاريخ صدور المقرر التنفيذي، مع إمكانية تمديد هذه
الآجال بناء على طلبه بعد صدور قرار من قاضي تطبيق العقوبات اذا تعلق الامر براشد،
او قاضي الاحداث اذا كنا امام حدث.[22]
v الغرامة اليومية: عرفها المشرع المغربي "هي عقوبة يمكن للمحمة ان تحكم بها بدلا من
العقوبة الحبسية، وهي مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم
بها، والتي لا يتجاوز منطوقها في المقرر القضائي سنتين حبسا".[23]
يؤدي المحكوم
عليه والذي يبلغ 18 سنة شمسية كاملة[24]
مبلغ الغرامة اليومية والمقدرة ما بين 100 و2000 درهم عن كل يوم حرية، حيث تراعي
المحكمة في تحديدها الإمكانيات المادية للشخص المذنب بما في ذلك خطورة الجريمة
المرتكبة.[25]
v تقييد بعض الحقوق او
فرض تدابير رقابية او علاجية او تأهيلية: نص المشرع
المغربي على هذا الاجراء العقابي ضمن المواد (13-35 الى 15-35)، حيث يمكن ان تحل
محل العقوبة السالبة للحرية متى كانت لا تتجاوز سنتين حبسا، حيث تستهدف هذه
العقوبات اختبار المحكوم عليه والتأكد من مدى استعداده لتقويم سلوكه واستجابته
لإعادة الادماج.
وبإمعاننا
النظر في فحوى هذه العقوبة البديلة نلاحظ على انها تتشابه الى حد كبير مع نظام
الاختبار القضائي الذي تطرقنا له سلفا، وربما الاختلاف في التسمية راجع لهدف
المشرع من تدقيق العقوبة وبذلك فهي تضم أربع تدابير أساسية "تقييد بعض
الحقوق؛ فرض تدابير رقابية؛ فرض تدابير علاجية؛ فرض تدابير تأهيلية"،
وبالتالي سيكون المفهوم اكثر شمولية ودقة من نظام الاختبار القضائي.
حيث ينفذ
المحكوم عليه العقوبات المنصوص عليهم أعلاه داخل اجل لا يتجاوز 5 سنوات مع إمكانية
تمديد هذه الآجال بناء على طلب من المحكوم عليه وبقرار صادر من قاضي تطبيق
العقوبات او قاضي الاحداث حسب الحالات.[26]
يمكن ان يتضمن
الحكم واحدة او أكثر من العقوبات والمتمثلة في:[27]
· مزاولة المحكوم
عليه نشاطا مهنيا محددا او تتبعه دراسة او تأهيلا مهنيا محددا؛
· إقامة المحكوم عليه
بمكان محدد والتزامه بعدم مغادرته؛
· فرض رقابة يلزم
بموجبها المحكوم عليه بالتقدم في مواعيد محددة، اما لمؤسسة سجنية، او مقر الشرطة
او الدرك الملكي او مكتب موظف المكلف بالمساعدة الاجتماعية بالمحكمة؛
· خضوع المحكوم عليه
لعلاج نفسي او علاج ضد الإدمان؛
· تعويض او اصلاح
المحكوم عليه للأضرار الناتجة عن الجريمة.
·
الفقرة 2: مظاهر العقوبة البديلة الحديثة على ضوء مشروع
قانون المسطرة الجنائية
اقر مشروع
قانون المسطرة الجنائية مجموعة من التدابير البديلة الرامية الى تقليص الزمن
القضائي وجعل اليات العدالة أكثر نجاعة وفعالية، نذكر اهم ما يحمله المشروع من
اليات حديثة خاصة في مرحلة ما قبل المحكمة والمتمثلة في:
v الصلح الزجري: يرمي المشروع الى وضع مقاربة جديدة للصلح واضفاء عليه نوع من المرونة
خاصة بعد ان ابان عن تجاوز مجموعة من الصعوبات والمعيقات منذ إقراره كآلية سنة
2003، وتشمل هذه التعديلات ما يلي:
- توسيع وعاء الجرائم
القابلة للصلح، برفع سقف الغرامة المالية للجنح الضبطية الى 100 ألف درهم، كما تم
تخويل الأطراف حق اللجوء الى الصلح في بعض الجنح التأديبية؛
- منح الأطراف حق
التراضي على الصلح دون اشتراط موافقة النيابة العامة؛
- إقرار إمكانية
الصلح امام قاضي التحقيق؛
- إمكانية عرض الصلح
من طرف النيابة العامة على الأطراف؛
- تكليف محامي
الأطراف او وسيط او أكثر للقيام بالصلح؛
- الاستغناء على
مصادقة القاضي للصلح.
v السند التنفيذي
الإداري: لغاية ترشيد المنازعات القضائية، يسمح هذا
الاجراء لبعض الإدارات باقتراح أداء الغرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة
المقررة قانونا، متى كان الحد الأقصى للغرامة لا يتجاوز 5 آلاف درهم.
v الامر القضائي في
الجنح: بغية تشجيع اللجوء الى مسطرة الامر الأمر
القضائي في الجنح كمسطرة مبسطة للجنح البسيطة، تم رفع سقف الغرامة الى 20 الف درهم
بدلا من 5 آلاف درهم.
v إقرار آلية التجنيح
القضائي: اقر المشرع الية جديدة تخول للوكيل العام
للملك صلاحية إحالة الجناية على وكيل الملك باعتبارها جنحة، متى تبين له ان الضرر
الناجم عن الجناية كان محدودا وقيمة الحق المعتدى عليه بسيطة، وكان القانون يسمح
بوصفها كذلك.
v التخفيض التلقائي
للعقوبة: وضع المشروع آلية جديدة من شأنها تحفيز
وتشجيع السجناء على الانضباط او الانخراط بشكل إيجابي في برامج الإصلاح والاندماج،
حيث بعد قضاء السجين لربع العقوبة وابان عن تحسن سلوكه تحت اشراف لجنة بالسجن، حيث
يتم تخفيض 4 أيام عن كل شهر لغاية سنة، وشهر عن كل سنة او جزء من السنة.
v أداء الغرامات: في اطار التشجيع على أداء الغرامة المحكوم بها اقر المشروع الية
تحفيزية، تتمثل في تخفيض قيمة الغرامة المحكوم بها الى الثلث اذا تم اداؤها داخل
الاجل المحدد لها.
v المراقبة الالكترونية: خول المشروع لقاضي التحقيق آلية الوضع تحت المراقبة الالكترونية عن
طريق القيد الالكتروني، كتدبير جديد بديل عن العقوبة السالبة للحرية، مع فسح
المجال للسلطة القضائية للقيام بهذا الاجراء بغية التقليل من اكتظاظ السجون وإعادة
تأهيل وادماج المحكوم عليهم داخل النسيج الاجتماعي وعقلنة الوضع تحت المراقبة
القضائية.
خاتمة:
ان مسألة
تحديث النظام العقابي وتدعيمه بعقوبات وآليات بديلة أضحت ضرورة ملحة لا خيار بديلا
عنها، خاصة بعد ان أظهرت العقوبات التقليدية عن خروقات لم تنجح في تحقيق السلم
الاجتماعي الحق وارهاق كاهل العدالة والسجون بالاكتظاظ وحالات العود الشيء الذي
يقف عائقا امام تحقيق البرامج الادماجية المبتغاة.
فنجاح هذه
المنظومة العقابية البديلة وتقويتها رهين بإتقان التعامل معه والتنسيق بين مختلف
الفاعلين وحرص كل منهم على القيام بواجباته على الوجه المطلوب، فالمشرع المغربي
نهج أسلوب تصاعدي تدريجي لتكريس نظام العقوبات البديلة.
وأخيرا أرى
انه لمن الضروري إعادة هيكلة بعض الجرائم والجزاء المقابل، وذلك بالتخفيض من حدتها
والابتعاد عن التشديد في سن عقوبات جنائية الشيء الذي يجعلها في معزل عن العقوبات
البديلة، بالإضافة الى التنويه بدور المجتمع في إنجاح المنظومة العقابية الحديثة
والتعريف بأهمية مركزه.
[1] J. IMBERT: La peine de mort, op, cit, p: 07
[2] عبد الله بن علي الخعثمي،
بدائل العقوبات السالبة للحرية بين الواقع والمأمول، رسالة ماجستير جامعة نايف
للعلوم الأمنية، السعودية 2008، ص 13.
[3] مضواح بن محمد ال مضواح،
بدائل العقوبات السالبة للحرية مفهومها وفلسفتها، ندوة بدائل العقوبات السالبة
للحرية، 12/12/2012.
[4] عبد الواحد العلمي، شرح
القانون الجنائي المغربي، القسم العام، مطبعة النجاح الجديدة، ط 8، 2018، ص 400.
[5] تعريف الدكتور محمد عبد الله
الشنقيطي، دراسة حول العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة،
للقاضي أسامة الكيلاني، فلسطين، 2013.
[6] تعريف اللواء عبد بن
سعد الحميدي، مساعد مدير عام للسجون في السعودية، أسامة الكيلاني، م س.
[7] تعريف الدكتور فهد يوسف
الكساسبة من خلال دراسة للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي PRI وهي منظمة دولية غير حكومية تعنى
بإصلاح العدالة الجنائية والجزائية عبر العالم.
[8] المادة 1-35 من مسودة مشروع
القانون الجنائي، رقم 10.16
[9] عقدت الأمم
المتحدة منذ 1955 حوالي 15 مؤتمرا حول شؤون مكافحة الجريمة والوقاية منها ومعاملة
المجرمين إلى غاية مؤتمر ابريل
2015 بالدوحة وتطرق هو الأخر للعقوبات البديلة للأطفال والنساء.
[10] معيزة رضا، نظام
وقف تنفيذ العقوبة في ضوء السياسة العقابية الحديثة، رسالة ماجستير جامعة بن عكنون
الجزائر 2007، ص 25 .
[11] نظرية الوصم: هي من النظريات
التفسيرية لعلم الاجتماع الجنائي، التي تحاول تفسير الانحراف، فالوصم مرتبط بردة
الفعل الاجتماعية اتجاه الفعل الانحرافي حيث نتيجة له قد ينتقل الفرد من شخص سوي
الى غير سوي نتيجة هذا الوصم الذي اطبعه المجتمع عليه.
[12] عبد الله بن علي
اخاعثمي، مرجع سابق ص 57 .
[13] محمد خاضر بن
سالم، عقوبة العمل للنفع العام في القانون الجزائري، رسالة ماجستير، جامعة ورقلة
الجزائر 2001 ، ص 47 .
[14] محمد البرج، مداخلة تحت عنوان
العقوبة البديلة كمظهر من مظاهر السياسة الجنائية الحديثة، الملتقى الوطني الثالث
"تجليات العدالة الجنائية الحديثة في السياسة الجنائية الحديثة بين الفقه
والقانون واثرهما في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية واقع وآفاق"،
11-12 أكتوبر 2015، ص 07.
[15] محمد البرج، م س، ص 07.
[16] محمد البرج، م س، ص 07.
[17] تعريف الأستاذ
فرنسوا ستيتشال، محمد خاضر بن سالم، مرجع سابق، ص 14 .
[18] محمد البرج، م س، ص 08.
[19] محمد البرج، م س، ص 08
[20] المواد من 1-35 الى 15-35 من
مسودة مشروع ق ج، 10.16
[21] المادة 7-35 من م ق ج.
[22] المادة 8-35 من م ق ج.
[23] المادة 10-35 من م ق ج.
[24] استثنى المشرع الاحداث من
عقوبة الغرامة اليومية (م 10-35) وذلك باعتبار ان الحدث لن تشكل له هذه العقوبة
الغاية المرجوة من تقويمه وإعادة إصلاحه، خاصة ان أدائها سيكون من الجهة الوصية
على الحدث (احد الابوين، الولي ...) وبذلك تشكل ضربا لمبدأ شخصية العقوبة، وهو ما
اهتدى المشرع لصيانته.
[25] المادة 11-35 من م ق ج.
[26] المادة 14-35 من م ق ج.
[27] المادة 15-35 من م ق ج.
0 تعليقات