عدالة تختنق
من إعداد: منير فوناني (محام
بهيئة المحامين بالرباط – المملكة المغربية)
كانت العبارة الواردة
في أخر هذه الفقرة، أخر ما تلفظ به 'جورج فلويد' قبل موته خنقا خلال اعتقاله، والتي على إثرها انطلقت شرارة احتجاجات واسعة داخل الولايات المتحدة
الأمريكية.(لا أستطيع أن أتنفس)
هذا لسان حال عدالتنا هذه الأيام، تختنق لا تستطيع أن تتنفس، جراء قرارين متتاليين، تم الإعلان
فيهما تعليق انعقاد الجلسات بمختلف محاكم
المملكة، باستثناء بعضها، القرار الأول الذي صدر برأسية تحمل شارة كل من وزير
العدل والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والوكيل العام للملك لدى
محكمة النقض رئيس النيابة العامة، والقرار الثاني هو القرار عدد 151/1 المؤرخ في
16/3/2020 الصادر عن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، القاضي بتعليق
انعقاد الجلسات بمختلف محاكم المملكة ابتداء من يوم الثلاثاء 17/3/2020، وهو تاريخ
سابق عن الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية الذي نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 24/03/2020
(المرسوم عدد 2.20.292 والمرسوم عدد 2.20.293)، مادام أن العبرة للقول بسريان مراسيم
القوانين، بتاريخ النشر بالجريدة الرسمية (قرار المجلس الدستوري رقم 944 بتاريخ
18 شتنبر 2014).
وقد تم تبرير
القرار رقم 151/1 الصادر عن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية،
باعتبار أنه يدخل: "في إطار التدابير الاحترازية الرامية إلى الحد من انتشار
محتمل لفيروس كورونا المستجد، ونظرا للاكتظاظ والاختلاط الشديد الذي تعرفه محاكم
المملكة بسبب التوافد اليومي لأعداد كبيرة من مساعدي القضاء ومرتفقي العدالة
والمتقاضين إضافة إلى العاملين بالمحاكم من قضاة وموظفين، وحرصا على صحة وسلامة
الجميع..."
ويمكن القول بأن القرار
(الأول والثاني) خنق العدالة، بشكل أضر بمصالح المتقاضين، وهو ما يستوجب طرح ثلاث
أسئلة جوهرية:
-
هل كل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة
العامة لهم صلاحية اتخاذ القرار بغلق المحاكم لضمان سلامة المواطنين؟
-
لماذا انكمش القضاء على نفسه؟ وحرم المتقاضين من الولوج إلى حقوقهم، ألم
تكن هناك حلول قانونية وواقعية يمكن أن نستغني فيها عن انعقاد الجلسات دون إغلاق المحاكم؟
-
ماذا عن محكمة النقض؟
أولا: إن الدستور المغربي يحدد مهام واختصاصات المجلس
الأعلى للسلطة القضائية بدقة (الفصل 113 منه)، وكذا في الباب الأول من
القسم الرابع من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة
القضائية (المواد من 65 إلى 102 من القانون رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى
للسلطة القضائية)، والذي يحصر مهامه بالتدبير الأمثل للمسار المهني للقضاة.
قد يقول قائل بأن هناك هيئة مشتركة بين المجلس الاعلى للسلطة القضائية والوزارة المكلفة بالعدل من أجل التنسيق
في مجال الإدارة القضائية (المادة 54 من القانون رقم 100.13) وبالتالي ما
قام به يدخل ضمن اختصاصه، لكن الأصل هنا أن الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة (الفصل
89/2 من الدستور)، بالرغم من أن نشاط مرفق العدالة له خصوصية تميزه عن باقي
المرافق الإدارية الأخرى، فهناك نوعين من الأعمال، الأولى لها طبيعة إدارية ومالية
للإدارة القضائية التي تبقى تابعة للسلطة التنفيذية، وأعمال أخرى موسومة بالطبيعة
القضائية تبقى من اختصاص السلطة القضائية، مما يعطينا ازدواجية، فالمرفق إداريا
وماليا يشتغل تحت سلطة الوزير المكلف بالعدل، وتحت إشراف
المسؤول القضائي، إذن فهناك سلطة وهناك إشراف.
إن كان الرئيس
المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يمثل السلطة التي يترأس مؤسستها (المادة
5 من القانون رقم 100.13)، ووزير العدل يمثل السلطة التنفيذية المشرفة على
قطاع العدل، فلا مكان لرئاسة النيابة العامة في مجال الإدارة القضائية، لأنه حسب
الهيكلة الدستورية لا وجود لمؤسسة النيابة العامة كسلطة مستقلة، وإنما صنفها
الدستور تابعة لإحدى السلط، ولم يعتبرها سلطة رابعة، أو سلطة بين السلط، والدليل
أنه لم يتم الإشارة إليها ضمن الهيئة المشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية
والوزارة المكلفة بالعدل (المادة 54 من القانون رقم 100.13).
أما وزير العدل،
فحسب الدستور المغربي، هو مسؤول عن تنفيذ السياسة الحكومية في القطاع المكلف به (الفصل
93/1 من الدستور)، وبالتالي نلاحظ أن القرار سابق للمرسوم بقانون المتعلق بسن
أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها (مرسوم رقم 2.20.292)،
والمرسوم بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي
فيروس كورونا – كوفيد 19 (مرسوم رقم 2.20.293)، فالوزير لا صلاحية له
لاتخاذ هكذا قرار.
وكنتيجة لما سبق، فالأصل
أن البرلمان هو صاحب الاختصاص الأصيل بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية (الفصول
71، 72 و73 من الدستور)، لكن الحكومة لجأت إلى ما يسمى بمراسيم قوانين (الفصل 81 من الدستور)، وهو استثناء، وبالتالي فالأطراف الثلاث لم تكن
لهم صلاحية اتخاذ القرار بإغلاق المحاكم وتوقيف الجلسات منذ 17 مارس 2020.
ثانيا: إن ضمان استمرار الخدمات المقدمة من طرف مرفق
العدالة وحسن سيرها يعد من بين أهم المبادئ الدستورية (الفصل 154 من الدستور)،
التي ينبغي احترامها من خلال ضمان حق المتقاضين في الولوج إليها (الفصل
118 من الدستور)، وبالتالي فإغلاق
المحاكم وحرمان المتقاضين من حقوقهم الدستورية، دون البحث عن إمكانية وحلول لضمان
استمرارية مرفق العدالة، يشكل إضرارا بمصالحهم، خاصة وأنه كان بالإمكان إيجاد حلول ناجعة، عوض
التراجع والانكماش، فجل القضايا المعروضة على المحاكم تخضع للمسطرة الكتابية (الفصل
45/1 ق.م.م، القضاء التجاري، القضاء
الإداري)، وهناك ما يسمى
قانونا بمسطرة القاضي/المستشار المقرر، التي لا يتصور فيها اكتظاظ ولا اختلاط داخل
المحاكم، ذلك أن الملفات لن تدرج بالجلسة إلا بعد أن تصبح جاهزة للبت فيها، ويصدر
بشأنها أمرا بالتخلي، وعليه يتم الاقتصار فقط على تبادل المذكرات.
فإن كانت السلطات
العمومية تضمن سلامة المواطنين، فذلك مقرون باحترام الحريات والحقوق الأساسية (الفصل
21/2 من الدستور)، التي يعتبر الحق في التقاضي من بين أهم هذه الحقوق.
كما أن القرار
الثلاثي (المجلس الأعلى للسلطة القضائية/رئاسة النيابة العامة/وزارة العدل)
والقرار عدد 151/1 الصادر عن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، تم اتخاذه
دون استشارة للفاعلين الأساسيين في منظومة العادلة، في تجاهل تام للنظام الدستوري
المغربي الذي يقوم على أساس الديمقراطية التشاركية والحكامة الجيدة (الفصلين 1 و
154 من الدستور)، وهو ما أثر سلبا على الحلول المتخذة بشكل انفرادي.
ثالثا: فضلا عن كون مرفق العدالة لا يتصور، بتاتا، وقوفه
أو توقفه (تعطيله)، لأنه مرتبط بحقوق المواطنين، التي تضمن من خلال اللجوء إليه،
فالدولة قد تصدر قرارات إدارية تتسم بالشطط في استعمال السلطة أو بعيب عدم
الاختصاص أو غيرهما من العيوب، أين المفر حينها؟ سوى إلى القضاء، بالرغم من حالة
الطوارئ الصحية المعلن عنها، وبالتالي لا يمكن لعجلة العدالة أن تقف وتعطل، وهذا
ليس دفاعا عن مصالح فئوية ضيقة، وإنما دفاعا عن مؤسسات ذات حيوية في دولة الحق
والقانون، في دولة تحترم سيادة القانون، لأن الفيصل بين الدولة والمواطنين هو
القضاء، ومنظومة العدالة هي ما تحرك قيمة العدل وتجسده داخل المجتمع، فإذا جارت
الدولة على مواطنيها، أو العكس، فلا مناص من طرق باب القضاء.
بل الأكثر من ذلك،
فالمراسيم الصادرة خلال فترة الطوارئ الصحية، يمكن لكل ذي مصلحة الطعن فيها، وفق
ما يقتضيه القانون، لكن المسؤولين القضائيين كانت لهم رؤية مخالفة، حينما تناسوا
دور محكمة النقض، في قضايا معينة لها اختصاص فريد فيها، وأقفلوا أبوابها (الفصل
353/2 ق.م.م، المادة 9 من القانون رقم 41.90 القاضي بإحداث المحاكم الإدارية).
ألم يكن حريا
بالرئيس الأول لمحكمة النقض أن يضمن استمرار العمل بهذه المحكمة لتصريف مخلفات
السنوات الفارطة من القضايا ولو نسبيا؟ وذلك بتفويج الغرف المكونة لها، وتقسيمها
على أيام الأسبوع، أو استعمال التجهيزات الرقمية من أجل تجهيز الملفات، خاصة أمام
الإجراءات الخاصة لمحكمة النقض في البت في القضايا، ما دام أنها هي من تتكلف
بالجواب على وسائل النقض، هنا كان من الممكن الحديث عن التقاضي عن بعد، بأريحية
أكثر، مما هو مطروح في القضايا المرتبطة بحرية الأفراد.
وبناء عليه، فالإجراءات،
المتخذة من ذوي الاختصاص/غير الاختصاص، القاضية بتعطيل مرفق العدالة، خلال فترة
الطوارئ الصحية، اتسمت بالارتجالية وسوء التدبير، بشكل عطل حقوق ومبادئ دستورية،
خاصة منها تلك المرتبطة بالحق في التقاضي (الفصل 118 من الدستور)، والحق في
استمرار خدمات مرفق العدالة (الفصل 154من الدستور)، وهو ما أضر بمصالح
المتقاضين، وجعل من العدالة بالمغرب تختنق وتتعرض لنفس ما تعرض له الأمريكي جورج
فلويد، وأكثر.
0 تعليقات